تابع الفصل الثاني
من كتاب الشخصية
للكاتب عبد الله خمّار
2- الشخصية الضائعة : مصطفى سعيد و أخطار التكوين في الخارج :
أراد الطيب صالح أن يظهر خطورة سفر أبناء دول العالم الثالث إلى الغرب للدراسة في سن مبكرة وأن يبرز دور الأسرة الأساسي وكذلك دور اللغة الأم والمجتمع في تربية النشء وإقامة التوازن في شخصياتهم بين العقل والوجدان، إذ يتولى الغرب عند دراستهم فيه تكوين عقولهم ولا يستطيع تكوين وجدانهم وعواطفهم، لأن المدرسة تثقف العقل، أما الأخلاق والعواطف فتكونها الأسرة والمجتمع والتراث والوطن وهم بعيدون عن أسرهم ودخلاء على المجتمع، ومنقطعو الصلة بتراثهم وغرباء عن وطنهم.
تبهرهم الحضارة الغربية بعلمها وتكنلوجيتها، وتستهويهم الحرية الكاملة التي لا يجدونها في مجتمعاتهم ، فينحرفون ويضيعون في متاهات اللذة والخمر والجنس دون أن يجدوا وازعا أو رادعا.فبنى شخصية مصطفى سعيد لينقل إلينا رسالة يحذر فيها من مغبة تكوين العقل و إهمال الوجدان.
مخطط بناء شخصية مصطفى سعيد :
لنفرض أن الكاتب وضعه كما يأتي:
1- الفكرة المستهدفة من حلق الشخصية، هي ضياع شباب العالم الثالث الذين ذهبوا إلى التكوين في الخارج في سن مبكرة، وانحرافهم عن الغاية التي أرسلوا من أجلها، وبقاء معظمهم هنالك وانقطاع صلتهم بمجتمعاتهم وحضارتهم.
2- الشخصية المطلوب بناؤها هي إذن شخصية سلبية يجب التركيز فيها على إبراز عيوب التكوين في الخارج في سن مبكرة والاهتمام بالعقل وإغفال الوجدان.
3- عرض مقومات الشخصية في نصوص مختلفة وبصورة تدريجية و ليس في نص استهلالي "كما رأينا في الأمثلة السابقة"، وذلك من خلال حكاية مصطفى سعيد جزء من قصة حياته للراوي، واكتشاف الراوي الأجزاء الأخرى من خلال زيارة مكتبة مصطفى والاطلاع على أوراقه ومراسلاته لمن عرفوه.وأهم هذه العيوب هي انعدام التوازن بين ذكائه وتفوقه العقلي والعلمي من جهة، ونقص تكوين عواطفه وعدم تشبعه بحضارة بلد وقيمها وأخلاقها من جهة أخرى.
4- الغاية: كانت غاية مصطفى سعيد التفوق العلمي، ثم انحرف عن هذه الغاية لتحكم أهوائه فيه، وعدم وجود وازع من وجدان أو رادع من خلق يكبح جماحه.
5- الدافع: الطموح العلمي في البداية. ثم أصبح الدافع تسلط الأهواء.
6- الوسيلة: كانت الوسيلة هي السفر إلى الخارج للدراسة، ثم أصبحت وسيلته تعاطي الخمر واستدراج النساء.
7- علاقته بمن حوله: علاقة شاذة ومنحرفة مع النساء، تقوم على الجنس لا على العواطف.
8- النهاية التي وصل إليها نتيجة تصرفاته وسجنه في إنكلترا.
9- ندمه وعودته إلى السودان ووصيته بأن يتكون أولاده في بلادهم، وأن يتشبعوا بحضارة قومهم، ثم اختفاؤه في ظروف غامضة.
10- تحريك عواطف القارئ وجعله ينفر من التصرفات المشينة التي قام بها مصطفى سعيد ، ويشعر بالشفقة عليه لما عاناه في الغربة بعيدا عن أمه ووطنه من خلال الوصف وسرد الأحداث.
وسنبرز أهم جزء في هذا البناء وهو الخلل وفقدان التوازن بين الجانبين العقلي والوجداني
ذكاؤه:
والعنصر الأول في هذا البناء ذكاؤه الخارق:
"كان أشهر طالب في كلية غردون" كان نابغة في كل شيء لم يكن يوجد شيء يستعصي على ذهنه العجيب. كان المدرسون يكلموننا بلهجة ويكلمونه بلهجة أخرى خصوصا مدرسو اللغة الإنجليزية، كأنما كانوا يلقون الدرس له وحده دون بقية التلاميذ"
موسم الهجرة إلى الشمال ص 68
ولكن ذكاء مصطفى سعيد كان باردا، لا حرارة إنسانية فيه، لذلك قتل زوجته الإنجليزية بكل برودة و دون أن يشعر بأنه يرتكب جرما أو يحس بالندم، وحكم عليه بالسجن في إنجلترا.
تذكرت ما قاله القاضي قبل أن يصدر الحكم في الأولدبيلي. قال له:
"إنك يا مستر مصطفى سعيد، رغم تفوقك العلمي، رجل غبي، إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة، لذلك فإنك قد بددت أنبل طاقة يمنحها الله للناس: طاقة الحب"
الأم الغريبة:
ما أسباب هذه البقعة المظلمة يا ترى؟
كان يتم الأب وكانت علاقته بأمه علاقة عجيبة "حين أرجع الآن بذاكرتي. أراها بوضوح، شفتاها الرقيقتان مطبقتان في حزم، وعلى وجهها شيء مثل القناع. كثيف كأن وجهها صفحة بحر. هل تفهم؟ ليس له لون واحد بل ألوان متعددة، تظهر وتغيب، وتتمازج، لم يكن لنا أهل. كنا أنا وهي أهلاً بعضنا لبعض كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق. لعلني كنت مخلوقا غريباً، أو لعل أمي كانت غريبة لا أدري"
ص 43
أترى السبب حرمانه من عاطفة هذه الأم ذات القناع العجيب الكثيف؟ إنها لا توحي إلينا بالقسوة بل بالغرابة وربما كانت كما قال المأمور جارية من الجنوب:
"ويقال إن أمه كانت رقيقا من الجنوب من قبائل الزاندي أو الباريا الله أعلم، الناس الذين ليس لهم أصل"
فإذا صح أنها كانت "رقيقا" من هذه القبائل فمعنى ذلك أنها عانت الكثير، والمعاناة الشديدة تجفف العواطف.
والنص الذي يحدد علاقته بأمه مهم جدا في بناء شخصيته وفي بناء القصة فالعلاقة بينهما ليست علاقة أم بابنها بل علاقة غريبين جمعهما طريق.
ونراهما مرة أخرى في اليوم الأول الذي قرر أن يدخل المدرسة وهو صغير، ويخبرها بذلك بعد عودته، ويحس بأنها أرادت أن تضمه إلى صدرها، ولكن شيئا أعاقها ترى ما هو هذا الشيء؟ ويبقى السؤال بل جواب. ويبقى أمر هذه الأم لغزا محيرا:
" عدت إلى أمي في الظهر فسألتني أين كنت فحكيت لها القصة. نظرت إليّ برهة نظرة غامضة، كأنها أرادت أن تضمني إلى صدرها، فقد رأيت وجهها يصفو برهة، وعيناها تلمعان، وشفتيها تفتران كأنها تريد أن تبتسم، أو تقول شيئا لكنها لم تقل شيئا. وكانت تلك نقطة تحول في حياتي. كان ذلك أول قرار اتخذته بمحض إرادتي"
ص 45
إن أمه ترمز إلى السودان في زمن الاستعمار الإنجليزي، فهي عاجزة عن أن تقدم لأبنائها العلوم التي يطلبونها ويحتاجون إليها ولا تستطيع أن تمنعهم من الذهاب إلى الخارج ليتعلموا وعاجزة حتى عن إظهار عواطفها ويروي لنا مصطفى سعيد أيضا أنه لم يكن يتأثر مثل بقية الأطفال :
"إلا أنني منذ صغري كنت أحس بأنني… أنني مختلف، أقصد أنني لست كبقية الأطفال في سني، لا أتأثر بشيء، لا أبكي إذا ضربت، لا أفرح إذا أثنى علي المدرس في الفصل، لا أتألم لما يتألم له الباقون. كنت مثل شيء مكور من المطاط، تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز"
تفوقه العقلي :
أما العنصر الهام الآخر في تكوينه وفي بناء شخصيته فهو كما قلنا سابقا ذكاؤه الخارق وهذا ما نستنتجه من تفوقه في الدراسة:
"طويت المرحلة الأولي في عامين، وفي المدرسة اكتشفت ألغازاً أخرى، منها اللغة الإنكليزية، فمضى عقلي يعض ويقطع، كأسنان محراث، والجمل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية، والجبر والهندسة كأنها أبيات شعر. العالم الواسع في دروس الجغرافيا أراه رقعة شطرنج"
ص 46
وانتهت المرحلة الوسطى، وزود بمنحة دراسية إلى القاهرة وهو في الثانية عشرة من عمره فلم تكن في السودان مرحلة ثانوية في تلك الأيام، وأخبر أمه بذلك:
"ذهبت إلي أمي وحدثتها نظرت إلي مرة أخرى، تلك النظرة الغريبة. افترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم ،ثم أطبقتهما وعاد وجهها كعهده قناعا كثيفا بل مجموعة أقنعة .ثم غابت قليلا وجاءت بصرة وضعتها في يدي وقالت لي :"لو أن أباك عاش لما اختار لك غير ما اخترته لنفسك. افعل ما تشاء سافر أو ابق، أنت وشأنك. إنها حياتك، وأنت حر فيها. في هذه الصرة مال تستعين به. كان ذلك وداعنا. لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء.مخلوقان سارا شطرا من الطريق معاً، ثم سلك كل منهما في سبيله. وكان ذلك في الواقع آخر ما قالته لي، فإنني لم أرها بعد ذلك. بعد سنوات طويلة، وتجارب عدة،تذكرت تلك اللحظة وبكيت".
ص46
لقد كانت أمه تظن أنها تصنع خيرا بسماحها له بالسفر، وربما لم تكن تظن أنها لن تراه بعد الآن. وهاهو يفقد الصلة بأمه نهائيا فلن يراها بعد الآن، كما تنقطع علاقته ببلده وصلته الروحية به وبحضارته وتراثه ويصبح تكوينه منذ سن الثانية عشرة أوربيا بحتا. ويقضي ثلات سنوات في المدرسة الإنجليزية بالقاهرة، ثم يرسل إلى لندن في الخامسة عشرة فيتخرج من الجامعة، ويعين وهو في الرابعة والعشرين من عمره محاضرا للاقتصاد في جامعة لندن.
تكوينه الإنكليزي:
لقد كان تكوينه العلمي إنكليزيا مئة بالمئة، وكانت فصاحة لغته تجلب الانتباه. ويحدثنا المأمور المتقاعد وكان أحد زملائه في المدرسة عن ذلك:
"نحن كنا ننطق الكلمات الإنكليزية كأنها كلمات عربية لا نستطيع أن نسكن حرفين متتاليين. أما مصطفى سعيد كان يعوج فمه، ويمط شفتيه، وتخرج الكلمات من فمه كما تخرج من أفواه أهلها. كان ذلك يملؤنا غيظا وإعجابا في الوقت نفسه، وكنا نطلق عليه بخليط من الإعجاب والحقد "الإنكليزي الأسود".
ص 68
ويقول لنا مصطفى سعيد نفسه حين وصل إلى لندن:
"لكن اللغة ليست لغتي، تعلمت فصاحتها بالممارسة".
ص 50
لقد كان تكوينه منذ السابعة من عمرة أجنبيا مئة بالمئة والزائر لمكتبته المنزلية الضخمة يجد فيها كتب الاقتصاد والتاريخ والأدب وعلم الحيوان والجيولوجيا والرياضيات والفلك والدين ولكنها بالإنجليزية. كما أنه كتب كتبا في السياسة والاقتصاد عن الاستعمار واقتصاد الاستعمار وأفريقيا، كتبا كثيرة باللغة الإنجليزية التي يحسنها،ثم انغمس في حمأة الغرائز والجنس وقتل زوجته الإنجليزية "حين مورس" عمدا من دون سبب واضح. لقد وصل إلى أعلى مستوى علمي، ولكنه لم يجد رادعا من خلق ولا وازعا من دين يكبح جماحه، مصداقا لقول حافظ إبراهيم:
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق
فاستسلم لغرائزه وعواطفه الجامحة، والغرائز والعواطف بحاجة إلى تربية تهذبها، وأخلاق تحميها ومصطفى سعيد يقول لنا بعد ذلك في أوراقه:
"نعلم الناس لنفتح أذهانهم ونطلق طاقاتهم المحبوسة، ولكننا لا نستطيع أن نتنبأ بالنتيجة"
آراء الآخرين فيه :
ويورد لنا الكاتب آراء الآخرين فيه لإبراز هذا الخلل في شخصيته، فهذه "مسز ربنسن" التي تولت الإشراف عليه في القاهرة واعتبرته كابنها تقول في رسالة إلى راوي القصة:
ص 138
وتقول عنه أيضا في الرسالة نفسها:
"وكان لموزي عقل عبقري، ولكنه كان متهورا. كان غير قادر على تقبل السعادة أو إعطائها إلا لمن أحبهم وأحبوه حبا حقيقيا مثل "ركي" تقصد زوجها"
ص 138
وهي تعترف بدوره الهام في الكتب الكثيرة التي كتبها عن الاستعمار في إفريقيا وتعد بإدراج ذلك في الكتاب التي تؤلفه عن حياتها هي وزجها ومصطفى سعيد : "وسأكتب عن الدور العظيم الذي لعبه موزي في لفت الأنظار هنا إلى البؤس الذي يعيش فيه أبناء قومه تحت وصايتنا كمستعمرين"
وكانت تحس رغم ذلك بخلل في شخصيته وهو يخبرنا أنها كانت تقول له: "أنت يا مستر سعيد إنسان خال تماما من المرح" صحيح أنني لم أكن أضحك.وتضحك مسز روبنسن وتقول لي: "ألاتستطيع أن تنسى عقلك أبدا"
وهاهو بروفسور "ماكسول فستركين" أستاذ في الجامعة يقول له منتقدا سلوكه وتربيته وليس عمله: "أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في إفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة "
لقد استطاعت المدرسة الإنجليزية تثقيف عقله، ولكن تربية الوجدان مهمة الأم والبيت والأهل والمجتمع والوطن وقد حرم منهم جميعا مند سن الثانية عشرة. إنه كنبتة اقتلعت من جذورها وهي صغيرة، وزرعت في تربة غريبة فتكونت تكوينا شاذا. وهاهو أستاذه نفسه يدافع عنه في المحكمة قائلا: "مصطفى سعيد ياحضرات المحلفين إنسان نبيل، استوعبت عقله حضارة الغرب لكنها حطمت قلبه"
ص 54
بين جمود العواطف والإحساس بالغربة والضياع:
لم يكن مصطفى سعيد في البداية يدرك قيمة العاطفة أو يحس بأهميتها ولم يكن يعرف معنى الغربة وهاهو يخبرنا عن لحظة مغادرته مصر إلى إنجلترة لمتابعة الدراسة:
"كنت في الخامسة عشرة، يظنني من يراني في العشرين، متماسكا على نفسي كأنني قربه منفوخة. ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة. كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي، وفي صدري إحساس بارد جامد كأن جوف صدري مصبوب بالصخر"
ولكنه أدرك متأخرا وقبل أن يرتكب جريمة قتل زوجته، معنى الوحدة والضياع والغربة:
"أحسست بالذل والضياع، وفجأة تذكرت أمي… رأيت وجهها واضحا في مخيلتي، وسمعتها تقول لي: إنها حياتك وأنت حر فيها. وذكرت نبأ وفاة أمي حين وصلني قبل تسعة أشهر، وجدني سكرانا في أحضان امرأة. لا أذكر الآن أي امرأة كانت. ولكني تذكرت بوضوح أنني لم أشعر بأي حزن كأن الأمر لا يعنيني في كثير ولا قليل. تذكرت هذا وبكيت من أعماق قلبي، بكيت حتى ظننت أنني لن أكف عن البكاء أبدا".
لقد كانت السنوات التي قضاها في إنجلترا فترة طويلة من الغربة الروحية والجمود العاطفي، أفقدته حتى الإحساس بما حوله من جمال طبيعي وأدبي وفني :"ثلاثون عاما كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق، وطير الوقواق يغني للربيع كل عام. ثلاثون عاما وقاعة "ألبرت" تغص كل ليلة بعشاق "بيتهوفن وباخ" والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر. مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت "الهيماركت". كانت "إيدت ستول" تغرد بالشعر، ومسرح "البرنس أف ويلز" يفيض بالشباب والألق. البحر في مده وجزره في "بورنمث و براتين" ومنطقة البحيرات تزدهي عاما بعد عام. الجزيرة مثل لحن عذب سعيد حزين في تحول سرابي مع الفصول. ثلاثون عاما وأنا جزء من كل هذا، أعيش فيه ولا أحس جماله الحقيقي"
وصيته المتعلقة بأولاده:
ولذا نجد مصطفى سعيد يستفيد مما حدث له حتى لا يتكرر مع أولاده، لقد أعطته أمه الحرية وهو صغير، وحرمته من حنانها فماذا فعل بحريته؟ وماذا فعل بذكائه الخارق وتفوقه العلمي مادام بعيدا عن قومه ومجتمعه، وهاهو بعد عودته للسودان وزواجه وإنجابه يختفي فجأة بصورة غامضة، ويترك لراوي أحداث القصة رسالة يوصيه فيها بأولاده ومما جاء فيها:
"ولكنني أطلب منك أن تؤدي هذه الخدمة لرجل لم يسعد بالتعرف إليك كما ينبغي، أن تشمل أهل بيتي برعايتك و أن تكون عونا ومشيرا ونصيحا لولديّ، وأن تجنبهما ما استطعت مشقة السفر. جنبهما مشقة السفر. وساعدهما أن ينشآ نشأة عادية ويعملا عملا مفيدا ".
ويضيف قائلا: "إذا نشآ مشبعين بهواء هذا البلد وروائحه وألوانه وتاريخه ووجوه أهله وذكريات فيضاناته وحصاداته وزراعاته فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح كشيء له معنى إلى جانب معان كثيرة أخرى أعمق مدلولا".
ص 78
لقد طلب مصطفى سعيد من صديقه أن يجنب ابنيه غربة المكان وغربة العاطفة والروح، وكرر مرتين في طلبه أن يجنبهما مشقة السفر.كما طلب منه أن ينشآ نشأة عادية في بيئتهما وبلدهما، وأن يعملا عملا مفيدا. لقد أراد الخلاص لولديه والاستقرار النفسي والروحي وأن يتشبعا بروح بلدهما وحضارتها وأراد أن يجنبهما التمزق بين الحضارتين العربية الإسلامية والأوربية. أما هو فقد فات أوان خلاصه ،وستبقى روحه قلقة غير مستقرة، وهاهو يقول عن نفسه في الرسالة نفسها: "لاجدوى من خداع النفس ذلك النداء البعيد مازال يتردد في أذني وقد ظننت أن حياتي وزواجي هناسيسكتانه، ولكن لعلي خلقت هكذا، أو أن مصيري هكذا ،مهما يكن معنى ذاك لا أدري. إنني أعرف بعقلي ما يجب فعله، الأمر الذي جربته في هذه القرية مع هؤلاء القوم السعداء، ولكن أشياء مبهمة في روحي وفي دمي تدفعني إلى مناطق بعيدة تتراءى لي ولايمكن تجاهلها واحسرتي إذا نشأ ولداي، أحدهما، أوكلاهما، وفيهما جرثومة هذه العدوى،عدوى الرحيل"
ص 79
واختفى مصطفى سعيد، ولم يعرف أحد هل انتحر أم عاد إلى لندن، أم ذهب إلى بلاد أخرى، المهم أنه ركز على تكون ولديه في بلدهما ليتشبعا بأصالتها. وعاب على الذين يرون الحياة بمنظار الحضارة الغربية وحده فهاهو يقول في كراسة قصة حياته التي لم يتسنى له أن يكتبها وفي صفحة الإهداء: "إلى الذين يرون بعين واحدة، ويتكلمون بلسان واحد،ويرون الأشياء إما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية"
إنها دعوة صريحة للأصالة والمعاصرة، ولكن الأجيال يجب أن تتشبع بروح حضارتها أولا لتعرف من هي قبل أن تتصل بالآخر، وإلا ضاعت، ولم ينفعها التقدم العلمي والتكنولوجي إذا فقدت الهوية.
تمرين :
1- هل يمكن الاستغناء عن إرسال المتفوقين من شبابنا إلى الدراسة في البلدان المتقدمة علميا وتكنولوجيا؟ علل رأيك.
2- ما رأيك في السن التي يمكن أن نرسل فيها الشباب للدراسة في الخارج؟ و ما الشروط التي يجب توفيرها لنجاحهم؟
3- ما أهم الأخطار التي يتعرض لها الشباب حين دراستهم في الخارج؟
4- ما أسباب هجرة الأدمغة إلى الخارج؟ وما انعكاساتها على البلدان المتخلفة؟ وما الحلول التي تقترحها للحد من هذه الهجرة.
5- ضع مخططا لبناء شخصية تكون فكرتها "مخاطر الهجرة وهي تظهر معاناة طالب مهاجر إلى الغرب، ولم يتمكن من الدراسة فظل يعمل نادلا في أحد المطاعم وتزوج بأجنبية، وأهله يظنون أنه حصل على الدكتوراه وينتظرون حضوره.
اكتب نصا استهلاليا أو مشهدا مسرحيا تبرز فيه أهم مقومات الشخصية، وغايتها ودافعها ووسائلها والصعوبات التي واجهتها ثم ضع جدولا للأحداث المحتملة في مسيرة الشخصية، وماذا حل بها في خاتمة المطاف.
لقراءة الجزء التالي من هذا الفصل انقر هنا: مكبث والطموح المدمر: شكسبير
لقراءة الجزء السابق من هذا الفصل انقر هنا: الفصل الثاني: نماذج أخرى من بناء الشخصية- الشخصية المستهترة لنجيب محفوظ
للاطلاع على فصول الكتاب، انقر هنا: الشخصية